الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة «السقيفة» لحافظ خليفة: قماشة سياسية فنية حُبلى بالعبر

نشر في  18 نوفمبر 2014  (10:53)

«دورنا بخراب الدهر نبنيها» هكذا تحدّث بوكثير دومة كاتب نص مسرحية «السقيفة» للمخرج حافظ خليفة والتي قُدّم عرضها الأوّل يوم السبت 15 نوفمبر بقاعة المونديال. وقد سلّطلت «السقيفة» الأضواء على أوّل مؤتمر اسلامي تلا وفاة الرسول محمد ے عندما اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ورشّحوا سعد بن عبادة للخلافة، وعندما سمع عمر بن الخطاب بهذا الأمر أخبر أبا بكر الصدّيق وأسرعا الى السقيفة مؤكدين أحقية المهاجرين بالخلافة.

غير انّ مبايعة خليفة الرسول ے لم تكن بالعملية السهلة بعد أن تضاربت الآراء وتوزعت المواقف منقسمة الى ثلاثة تيارات رئيسية نادى اوّلها بأن يبقى الحكم في قريش (الأنصار) بينما طالب البعض الآخر بنصرة المهاجرين ودعا رأي ثالث إلى أن يكون من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير، لينتهي الخلاف بمبايعة أبي بكر الصديق خليفة للرسول.

وصوّرت «السقيفة» الاهتزازات الأولى للدولة الإسلامية مبرزة الدور الذي لعبه أبو سفيان الذي كان سيد قريش ويرمز الى النظام القديم والذي حاول التأثير على مجرى الأحداث ساعيا الى العودة للسلطة كبديل متمرّس باللعبة السياسيّة.

وإلى جانب أبي سفيان (كمال العلاوي)، ظهرت عدّة شخصيات أخرى من ضمنها أبو بكر الصديق (المنجي بن براهيم) وعلي ابن ابي طالب (أيمن بن عمر) التي مثلت الصفاء والثبات على المبادئ وعمر بن الخطاب (حمادي المزي) وسعد بن عبادة (عبد الرحمان محمود) والبشير ابن سعد بن النعمان الذي كان له دور حاسم في مداولات السقيفة بالانحياز الى شق عمر والحباب ابن المنذر الذي كان مناصرا لسعد بن عبادة ومعاديا لعمر بن الخطاب وأبو عبيدة الجراح، وهي شخصيات جرّدها حافظ خليفة من جانبها القدسي لتبدو شخصيات درامية فاعلة في تحديد الملامح الأولى للدولة الإسلاميّة.

وبخصوص المصادر التي استلهمت منها مسرحية السقيفة نصّها، نذكر كتاب «الفتنة» للدكتور هشام جعيط و«العصبية والدولة» للدكتور محمد عابد الجابري و«السقيفة والخلافة» للدكتور عبد الفتاح مقصود..

ومثلما دأب عليه في أعماله المسرحية السابقة، سهر المخرج حافظ خليفة على تقديم «خلطة» موسيقيّة بصريّة عادت بالمشاهدين الى سنة 632م تاريخ وفاة الرسول ے أي الى قرابة 14 قرنا مضت. ويقتحم المشاهد هذه الحقبة التاريخية عبر خدعة الموسيقى والأضواء في مرحلة أولى قبل أن تختطفه المواقف والتجاذبات السياسية التي شابت عملية اختيار الخليفة الأول للرّسول محمد ے مصحوبة بسينوغرافيا مميّزة جعلت عدّة مشاهد تبدو وكأنها لوحات أبديّة بحكم الرّوح العتيقة التي نُفخت فيها.

 وهنا تجدر الإشارة إلى أهميّة الملابس، وهي من تصميم الفنّانة جليلة مداني، حيث اعطت للمسرحيّة طابعا خاصّا بعد أن جعلت من الشخوص المتحرّكة على الركح بمثابة «الأرواح» مغيّبة يقيننا ان كانت هي شخصيات حاضرة بدمها ولحمها أم مجرّد تجليات لرموز من الماضي البعيد.

ويرى حافظ خليفة أنّ مسرحيته تحيلنا الى وضعنا الحالي بما فيه من تقلبات سياسية وحكم مؤقّت بني على فراغ سياسي صنعته ثورات الرّبيع العربي اذ ان ما حصل في «السقيفة» منذ قرون شبيه بما يحدث في العالم العربي اليوم. وفي هذا السياق، سعى حافظ خليفة الى إستفزاز فكر الجمهوره حاثا اياه الى التمعن في التاريخ وإستخلاص العبر بخصوص قوى الدولة العميقة التي تعمل على إعادة تمركزها في المشهد فضلا عن الطابع العنيف الذي إتسم به التاريخ الإسلامي ولسان حاله يقول انّ في الاختلاف رحمة لكن أن تصل التجاذبات الى حدّ الاستنجاد بلغة السيف والدم، فهذا ما لا يمكن استساغته.

وقد أعطى المشهد النهائي للمسرحيّة -والذي جاء في جزئين- دفعا قويا للمسرحية وكأنّ بحافظ خليفة وبوكثير دومة يسعيان الى إحداث رجّة في أذهان المشاهدين. "لا تنسوا التاريخ، لا تنسوا دمويته" يقول الثنائي. اذ يتمثّل المشهد الأخير في طريق ينطلق من يسار الركح الى يمينه وقد رشقت على طوله سيوف الغدر التي قضت على عدد من الخلفاء الراشدين، منهم عمر ابن الخطاب وعثمان ابن عفان وغيرهما قبل ان ينهمر من السماء سيل أو بالأحرى جدار من الأمطار الدموية، وهي فكرة ركحية مميّزة دلّت على تحدي المخرج للفضاء المسرحي وحسن توظيفه. 

وهكذا أُسدل ستار دموي على «السقيفة» مؤكدا كيف «تكتب الأيام في الوجع صفحات» وهي من الأقوال الأولى التي ذُكرت في بداية المسرحية. مسرحية تأججت فيها فكرة الصراع حول السلطة بما تتضمنه من إنشقاقات ومن مكائد وثبات على المبادئ أيضا، كلّ ذلك بلغة فنية مرهفة خاطت بالشخصيات والكلمات والموسيقى والاضواء قماشة حبلى بالعبر. 

شيراز بن مراد